الصفحة الرئيسية » زبالة الصين

زبالة الصين

عندما كنت في شيكاغو كانت لي صديقة يهودية أمريكية، اسمها جوليا، وهي شابة حديثة الزواج، وتعز حماها وتعجب بذكائه، وكثيرًا ماتردد ما يقوله لها، وهو دائمُا ما ينصحها “أعملي بذكاء ولا تعملي كثيرًا”work smart don’t work hard .

حمى جوليا كبير السن ولكنه مهتم بصحته فيمضي معظم اليوم في النادي ما بين حمام السباحة، وماكينات تقوية العضلات والسونا. ومن حين لأخر يأتيه تليفون من معرفة في الصين ليسأله إن كان يستطيع أن يجد من يشتري ألف ولاعة سجائر، أو 2000 طرطور أحمر مثل الذي يلبسه بابا نويل، أو كذا ألف بولوفر رجالي، أو زراير فساتين، أو أي شيء، وبما أن حمى جوليا يهودي له أقارب في العالم أجمع فهو يقوم ببعض المكالمات التليفونية لأقاربه وأصدقائه في بلاد العالم المختلفة ويأتي بمن هو مستعد أن يشتري ولاعات السجائر أو بطاريات إلخ، ويكون له نصيب في مبلغ السمسرة، وهكذا يعيش حمى جوليا.

نذهب الآن إلى الصين حيث تصنع ولاعات السجائر أو غيرها من المنتجات الصينية. تأتي طلبية مثلاً ب20000 ولاعة سجائر، ويعرف مدير الانتاج في المصنع أنه لكي يسلم 20000 ولاعة سليمة عليه أن يصنع 21000 لأنه ستظهر عيوب في بعض الولاعات، فيعمل حساباته على أنه سيصنع 21000 ويدخل ثمنهم في ثمن ما يسلم، ويسلم الـ20000 بثمن 21000 أي أنه قد حصل على ثمن ال1000 ولاعة المتبقية معاه بعد أن سلم الطلبية. فهذه الـ 1000 ولاعة هي زبالة بالنسية له، لأنه قد حصل على ثمنها ولا يحتاجها. إذا حاول أن ينتظر حتى يبيعها، فيجب أن يخزنها ويدفع ثمن التخزين وثمن متابعة حساباتها، وهو لا يعرف مدة التخزين ومصاريف الحسابات، فالأفضل له أن يتخلص من شيء هو قد أخذ ثمنه، ولا يحتاجه وهو في نظره زبالة.

والآن بعد أن عرفنا جهة السمسار، والجهة المنتجة نأتي إلى الضلع الثالث من المثلث، الجهة المستوردة، وهي في هذه الحالة تاجر مصري. فيتصل السمسار، أي من يكون مثل حمى جوليا، يتصل بمعرفة له في مصر ويجد من يريد أن يشتري الـ1000 ولاعة سجائر أو 2000 بولوفر، أو ما أشبه. نلاحظ هنا أن الشركة التي انتجت هذه الأشياء تبيعهم برخص التراب لأنها لا تريد إلا أن تتخلص منهم، والثمن الذي يدفعه المشتري غالبًا ما يكون ما سيأخذه السماسرة المختلفون. فتصل الولاعات مع اشياء أخرى في كونتينر كبير إلى مصر، ويعرف المستورد كيف يخلصها في الجمرك بأقل تكاليف ممكنة، ويسلم البضاعة إلى شبكة من مئات البائعين الذين يتكدسون في العتبة وفي تقاطع الشوارع، وتجدهم يطرحون بضاعتهم على أرصفة شوارع وسط البلد فيزاحمون المارة، ويفرشون بضاعتهم في الشارع نفسه فينافسون السيارات، وينزل الناس من الأرصفة ليسيروا في الشارع وينافسون السيارات، وتختنق القاهرة.

زبالة الصين خنقت القاهرة.

عندما عدت إلى مصر منذ حوالي 13 سنة اشتريت من مصنع صغير في العتبة نجفة جميلة، تصميمها ما يسمى style empire فرنسي، وبعد 5 سنوات ذهبت مرة أخرى إلى نفس المصنع، وسألت صاحب المصنع العجوز عن هذا النوع من النجف فقال: “لم نعد نصنعه، الآن يأتي المورد واشتري منه النجفة الصينية على شكل kit في علبة كرتون أجد فيها هيكل النجفة وقطع الكريستال والسلك وطريقة تركيب النجفة، فلا تأخذ من العامل أكثر من ساعتين ليصنع نجفة أبيعها واكسب منها ما كنت أكسبه من قبل، ولكن من يصعبوا علي هم العمال، فالآن ليس عندي عمل لهم، وهم كانوا معي منذ أكثر من عشرين سنة، الآن أجعل كل واحد منهم يعمل يومًا واحدًا كل أربعة أيام ويتناوبون العمل حتى يستطيعوا أن يأتوا بخبز لأولادهم”.

زبالة الصين قتلت العمالة والصناعة المصرية.

وماذا عن المئات من الشباب الذين يبيعون المنتجات الصينية ويستفيدون من هذا العمل، وماذا عن الآلاف من الناس الذين يشترون المنتجات الصينية الرخيصة ويستفيدون منها؟

زبالة الصين خلقت تجارة غير رسمية في مصر ذات فائدة زائفة لأن ضررها أكثر من فائدتها، فالتجارة العشوائية غير الرسمية لا تدفع ضرائب بل وأيضًا تمنع التقدم التجاري في مصر لأننا لن نجد شركة أجنبية محترمة تفتح فرعًا لها في قاهرة اليوم حيث لا يستطيع الناس أن يسيروا أو يسوقوا في شوارعها أو يعيشوا في عشوائيتها. وهي تجارة زائفة مبنية من ناحية على منتج ثمنه زائف لا يتناسب مع قيمته الحقيقية، ومن ناحية أخرى مبنية على شار لا يستطيع أن يدفع الثمن الحقيقي للمنتج واتكل على أن يدفع الثمن البخس غير الحقيقي.

مصيبة من كل ناحية.

وهنا قالت شهرزاد: “يجب أن تجد الدولة حلا سريعًا للتجارة غير الرسمية التي قتلت الصناعة والتجارة وزادت من عشوائية البلد، فخنقتها”، وسكتت عن الكلام المباح.    

د. سهير الدفراوي المصري

Leave a Reply

Your email address will not be published.