الصفحة الرئيسية » مخاطر التلفزيون على الطفل-2

مخاطر التلفزيون على الطفل-2

في مدونتنا السابقة تكلمنا عن خطر في غاية الأهمية  يتعرض له الأطفال عندما يسرفون في مشاهدة التلفزيون. هذا الخطر هو التدخل في طريقة تفكيرهم وفي نضوج تفكيرهم من التفكير بالصورة وهو التفكير البدائي الذي يولد به الأطفال إلى التفكير بالكلمة، وهو التفكير التجريدي الذي يستطيع أن يفكر به الانسان الناضج.

ولأن القراءة هي عملية تجريدية، تجرد الصورة إلى كلمة، وهي أيضًا تتطلب مجهودًا من المخ لفك شفرة كل حرف، وفهم كل كلمة، وتصور كل جملة فهي تتطلب مجهودًا من الأطفال، وهي على نقيض التلفزيون الذي يقدم لهم الصورة والمواقف جاهزة، فعندما يسرف الأطفال في مشاهدة التلفزيون يملون القراءة، ولا يحبونها، وإذا لم يتعلموا حب القراءة  قبل سن الإثنى عشر سنة ضاعت الفرصة أن يحبوها، فيقال أن نافذة فرصة حب القراءة في مخهم قد قفلت (أعمال كثيرة يقوم بها المخ تتحكم فيها نافذة الفرصة التابعة لها، فإذا ولت نافذة الفرصة يصعب على المخ أن يقوم بالعمل)، ويقال عن الطفل عندما يكبر أنه اصبح “أليتريت”، أي أنه يستطيع أن يقرأ، فهو ليس أميًا، ولكنه يمل القراءة.

من المؤسف أن الكثير من شعبنا قد تربى على الاسراف في مشاهدة التلفزيون، واصبح ما يسمى بـ”أليتريت”، أي أنه قد تراجع من التفكير بالكلمة، التفكير المنطقي إلى التفكير البدائي، التفكير بالصورة.

ما دليلنا الملموس على حالة الـ”أليتريت” في شعبنا؟ 

دليلي أنا شخصيًا أنني استطيع أن اتعرف على من اسرف في مشاهدة التلفزيون، فألاحظ أن هناك شرخًا في المنطق الذي يستعمله في المناقشة، واجدني كثيرًا ما أنبهه في المناقشة “أنا لم أقل هذا..”، فهو يعمل افتراضات غير سليمة، ويرد على اتهامات لم اتهمه بها، أو يرد على أشياء لم أقلها، وكأن في غياب الفكر التجريدي، المنطقي، أخذ مكانه ليس فقط الفكر البدائي المبنى على الصورة، ولكن أيضًا الفكر البدائي العاطفي.

ودليل آخر على حالة الـ”أليتريت” في شعبنا أن مع تمركز التلفزيون في الحياة المصرية ظهرت “مجلات الصور”، وهي مجلات مليئة بالصور، تتواصل مع الفكر البدائي الذي يستعمل الصورة، وقد اخرجها من يعرفون أن الشعب اصبح يفكر بالصورة. هذه المجلات لم تكن متواجدة من قبل. ظهرت عندما تراجع الفكر بالكلمة، وتمركز الفكر بالصورة. 

لأهمية القراءة اهتمت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بخطر تراجعها فمنعت أطفال السنتين فما أقل من مشاهدة التلفزيون، وسمحت للأطفال الأكبر سنًا أن يشاهدوه على ألا تزيد المشاهدة عن ساعتين يوميًا.  

ولكن هل هذا هو الخطر الوحيد للتلفزيون؟                                         

كلا، فقد اثبتت الدراسات أن الاسراف في مشاهدة التلفزيون ينتقص من التقدم الدراسي للأطفال كما يظهر في الامتحانات المختلفة. وفي دراسة قارنت بين الأطفال الصغار الذين تقرأ لهم الكتب والأطفال الذين يشاهدون التلفزيون يوميًا ولأوقات مختلفة وجد العلماء أن الأطفال الذين يسرفون في مشاهدة التلفزيون يكون معجم لغتهم محدودًا لأن لغة برامج الأطفال محدودة الكلمات (230 كلمة في اللغة الانجليزية)، وأنهم مقارنة بالأطفال الذين تقرأ لهم القصص فكل ساعة يومية يشاهدون فيها التلفزيون تنتقص من معجم لغتهم من ثلاث إلى أربع كلمات.

والاسراف في مشاهدة التلفزيون قد يزيد من عدوانية الأطفال لسببين:

السبب الأول أن كثيرًا من برامج الأطفال بما فيها الكارتون تقدم الكثير من العنف فتشجع الأطفال على محاكاة العنف الذي يرونه فيها. وقد اثبتت الدراسات دون أدنى شك أن الاطفال يتعلمون مما يرونه على التلفزيون وقد يقلدونه، لذا نجد أن في الولايات المتحدة والبلاد المتقدمة يمنع التلفزيون بالقانون من تقديم برامج بها عنف أو جنس حتى الساعة الثامنة مساءً حينما ينام الأطفال، ولكن بما أننا كشعب لا ننظم موعد نوم أطفالنا (فهناك ميعاد نوم في أجازة نهاية الأسبوع، وميعاد نوم آخر في أيام الدراسة، وهكذا) فلا نستطيع أن نطبق مثل هذا القانون.

السبب الثاني في أن الاسراف في مشاهدة التلفزيون قد يزيد من عدوانية الأطفال أنه عندما يجلس الطفل مدة طويلة ليشاهد التلفزيون، فهناك طاقة كانت ستخرج على شكل لعب وشقاوة وهي تختزن فيه الآن، فعندما تختزن مدة طويلة ثم ينتهي الطفل من مشاهدة التلفزيون تخرج هذه الطاقة عند بعض الأطفال بقوة على شكل أعمال عنف.

كذلك، اثبتت الدراسات أن القليل من مشاهدة التلفزيون يحفز التفنن عند الأطفال، ولكن الاسراف فيها ينتقص من خيالهم ومن تفننهم، والتلفزيون في ذلك يختلف عن القراءة، فالقراءة تزيد من الخيال ومن التفنن لأنها تعطي من يقرأ الحق في تصور ما يقرأه كما يراه هو، ولكن من يشاهد التلفزيون يرى ما تخيله المخرج أو المصور، فلا يستعمل خياله وتفننه، ويكسل خياله وتفننه.

السنوات الأربع الأولي في حياة الطفل ترسخ فيها صفاته الاجتماعية، لذا نشجعه في هذه السن أن يلعب مع الأطفال الآخرين، أن يتعلم كيف يأخذ ويعطي معهم، وأن يتعلم كيف يتشاجر ثم يتصالح معهم، حتى لا يصير أنانيًا لا يعرف كيف يتعامل مع الآخرين. الاسراف في مشاهدة التلفزيون يتداخل مع ترسيخ المبادئ الاجتماعية في الطفل.

لا ننس أيضًا أن الأطفال يتعلمون باللعب، ففي اللعب حركة وتفنن وإيجاد حل لمواقف مختلفة أو صعبة، وفي كل هذا تحفيز لمخ الطفل الذي يكون مسارات كهربائية جديدة تزداد مرونة باللعب، ولكن عندما يجلس الطفل ساعات طويلة أمام التلفزيون فهو يضيع على مخه وعلى عضلاته الفرصة أن تستعمل وأن تنمو.

وأخيرًا، لا ننس أنه عندما يشد التلفزيون انتباه المشاهد فهو يتدخل في التواصل بين المشاهد وافراد عائلته. قبل ظهور التلفزيون كانت فترة العشاء فترة مقدسة في حياة الشعب الأمريكي. يعود الأب من العمل، ويعود الأطفال من المدرسة وتجتمع العائلة حول مائدة العشاء، يتبادلون الأخبار والآراء عما حدث في يومهم، فتتوطد الروابط العائلية.

بظهور التلفزيون وانبهار الناس به، ظهرت الـTV trays وهي موائد للفرد الواحد يضع عليها عشائه الذي ربما يكون TV dinner، وهي وجبة تباع جاهزة للتسخين، فيأكل الفرد عشائه لحاله وهو يشاهد برنامجه التلفزيوني. وهكذا ضاع التواصل بين أفراد العائلة.

ولكن لأن الولايات المتحدة بلد مؤسسات فسرعان ما انتبهت المؤسسات والجمعيات الأهلية لخطر التلفزيون، وقامت مجموعة من الأهالي بدور اللوبي مع الكونجرس الأمريكي حتى صدر قانون يمنع البرامح التي تظهر مناظر عنف أو جنس أن تذاع قبل الساعة الثامنة مساءً، وكما رأينا أوصت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال الأهل ألا يتركوا الأطفال يشاهدون التلفزيون دون حساب.

في الولايات المتحدة تجاوبت الطبقة الوسطى والعليا من المجتمع مع هذه التوصيات، واصبحت مخاطر التلفزيون معروفة لمعظم الشعب.

نتمنى أن يحدث نفس الشيء في مصر.

وهنا قالت شهرزاد: “للكلام بقية”، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

Leave a Reply

Your email address will not be published.