الصفحة الرئيسية » هشاشة إنسانيتنا

هشاشة إنسانيتنا

منذ فترة قدمنا ثلاث مدونات في موضوع شركات العلاقات العامة. كان توقيت هذه المدونات توقيتًا موفقًا، فقد اتصل بي أقارب وأصدقاء ليقولوا لي أنهم لم يكونوا يعرفون بوجود هذه الشركات وبدورها في التحكم في عقول الناس، وأن مدوناتي فتحت عيونهم لما لم يكونوا يلاحظونه من قبل، فاصبحوا يرون الآن في مصر أمثلة لعمل هذه الشركات.

أنا، شخصيًا مهتمة بعلم النفس، ومهتمة بدور علم النفس في التحكم في تفكيرنا.  وهذا ما رأيناه في عمل شركات العلاقات العامة.

أعرف أن هناك مجالات مثل الدعاية تستعمل علم النفس لتوجيه الناس إلى شراء منتجات معينة، فمن باب المساواة، أرى أن من واجبنا، نحن من يعرفون كيف يُلعب بعقول الناس، أو كيف تتحكم الدعاية في تفكيرنا، من واجبنا أن نقوم بتوعية الناس بأن الدعاية تُسير تفكيرهم حتى يكونوا ـــ على الأقل ــــ على وعي بما يحدث لهم.

هكذا أفكر.

كنت منذ فترة اعتقد أنه بما أننا الكائن القادر على التفكير المنطقي العالي، أننا سنستعمل دائمًا هذا التفكير، ولكني اكتشفت أننا مع قدرتنا على التفكير المنطقي العالي إلا أننا لا نستعمله دائمًا، ونستعمله فقط في الأوقات التي لا نشعر فيها بعاطفة قوية تجاه ما نفكر فيه، ولكن في اللحظة التي نشعر فيها بعاطفة قوية تجاه ما نفكر فيه فإن التفكير المنطقي العالي يتراجع والعاطفة هي التي تأخذ زمام الأمور.

هذا هو تركيبنا الآدمي. 

عواطفنا البدائية مترسخة فينا وفي أجدادنا منذ ملايين السنين والخلايا التي تقوم بها مختبئة ومتحصنة داخل مخنا البدائي في قلب المخ، ونعرف من علم تكوين الأجنة أن مخ الجنين يتكون من الداخل إلى الخارج عندما تهاجر الخلايا التي ستكونه من جسم الجنين إلى رأسه. أول ما يتكون هو المخ البدائي وتكون رحلة تكوينه رحلة سهلة غير مزدحمة على هذه الخلايا المهاجرة، ثم تأتي خلايا أخرى من جسم الجنين لتكون نصفي كرة المخ، أيضًا في طبقات، ومن الداخل إلى الخارج ولكن هذه المرة تزداد صعوبة الرحلات لأن الخلايا المهاجرة تحتاج أن تشق طريقها بين زحام خلايا الطبقات السفلى فيموت سبعون إلى ثمانين في المائة منها. ولأن الخلايا الأكثر خارجية هي الخلايا المتصلة بتفكيرنا المنطقي العالي وبإنسانيتنا، وهذه الخلايا هي التي يموت معظمها، وحتى التي لا تموت تكون أكثر عرضة للتأثر بإصابة تصيب الرأس لذا نقول أنه مقارنة بصفاتنا البدائية فإنسانيتنا صفة هشة.

خلال عمليات التطور على مدار ملايين السنين نجد أن الأعصاب التي تقوم بعمل واحد تتقارب من بعضها وتكون حزمة أعصاب، وبذلك يتأصل العمل الذي تقوم به. هذا ما حدث على مدار ملايين السنين في عملية البصر، فالأعصاب التي كونت أوجه البصر المختلفة، على سبيل المثال الأعصاب التي تتعرف على أنواع الألوان، والتي تتعرف على الخطوط الأفقية والخطوط الرأسية فيما نراه، كل هذه الأعصاب تقاربت من بعضها على مدار ملايين السنين حتى كونت العصب البصري، وبذلك، اصبحت الرؤية صفة متأصلة في الحيوانات وفي البني آدم.

أما الصفات الإنسانية مثل القراءة أو التفكير العالي المنطقي أو الوعي والتفكر فما زالت متفرقة في خلايا المخ الخارجية، ولم تتأصل في الانسان، وتتطلب منا أن نعتني بها ونرعاها.

فنقول ان إنسانيتنا صفة هشة يجب أن نعتني بها ونرعاها.

ولأن إنسانيتنا صفة هشة فمخنا البدائي يجور عليها، وهذا ما نراه في حالة التنافر المعرفي.

التنافر المعرفي يحدث عندما يكون عند شخص ما فكر متأصل فيه، ربما يكون قد اكتسبه منذ مدة زمنية أو منذ الطفولة، أو فكر متصل بموضوع يهمه، مثل هويته أو ديانته، فهو متعلق به عاطفيًا. وعندما يتعرض هذا الشخص لفكر معارض للفكر المتأصل فيه، يحدث تنافر بين الفكرين. هذا التنافر يحدث في منطقة القشرة الحزامية الأمامية anterior cingulate cortex، وهي منطقة متواجدة في المخ الحديث الذي ينتج عنه التفكير العالي، ولكنها في المنطقة الأكثر داخلية منه، منطقة قريبة جدًا من المخ البدائي ومتصلة به عن طريق أعصاب كثيرة، أي هي تحت تأثير العواطف البدائية، لذلك، عندما نتناقش مع من هو في حالة تنافر معرفي، فهو قد يعتقد أنه يتناقش بنزاهة وأنه منفتح التفكير وأنه مستعد أن يقتنع إذا وجد ما يقنعه، ولكنه في الحقيقة قد أتخذ قرارًا غير إرادي أن يحافظ على وجهة نظره الأولى المتأصلة فيه، ويستعمل تفكيره المنطقي ليقدم الحجج التي تساند عاطفته، أي عاطفته هي التي تسير تفكيره، وكلما حاولت إقناعه بمعلوماتك الجديدة أو بوجهة نظرك كلما ازداد تمسكًا بوجهة نظره الأولى، هذه هي طبيعته البدائية التي تساعده على الحفاظ على ما هو متصل بها من عواطف بدائية، وتسخر منطقة من قشرة المخ لتساعدها في مهمتها.

فنقول أن انسانيتنا صفة هشة، يجب أن نعتني بها ونرعاها، وأن صفاتنا البدائية أحيانًا ما تجور على صفاتنا الانسانية، وتسخر تفكيرنا العالي ليعمل لعواطفنا البدائية كما هو الحال في التنافر المعرفي. نحن ذرية آدم ممزقون بين طبيعتنا البدائية، وإنسانيتنا، بين الطين الذي خلقنا منه والروح التي نفخت فينا ونسمو إليها. نعم، إنسانيتنا هشة ولكنها واعية، وفي هذا الوعي خلاصها. عندما يعي من هو في قبضة التنافر المعرفي حاله سيستطيع أن يفلت من قبضته.

وهنا قالت شهرزاد: “الوعي وما يبنى عليه من تفكر هو ما يفرق الإنسان من الحيوان”، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

Leave a Reply

Your email address will not be published.