الصفحة الرئيسية » مخاطر التلفزيون على الطفل-1

مخاطر التلفزيون على الطفل-1

منذ بضع سنوات، وكنت قد رجعت توًا من الخارج، لاحظت أن أطفالنا في مصر يسرفون في مشاهدة التلفزيون ، ولا يحبون القراءة ويملونها سريعًا.

تفكرت في هذا الأمر: هل عدم حب الأطفال للقراءة متصل بإسرافهم في مشاهدة التلفزيون؟ بحثت علميًا هذا الموضوع، ونشرت هذا البحث، ومعه كل المراجع العلمية، في كتاب “مخاطر التلفزيون على مخ الطفل”.

وعن طريق البحث علمت أن في سنة 1999 منعت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال منعًا باتًا أن يشاهد التلفزيون طفل السنتين فما أقل، وأن الطفل الأكبر سنًا يسمح له أن يشاهد التلفزيون لمدة لا تزيد عن ساعتين في اليوم.

فكان السؤال الأول: “لماذا التفريق عند سن السنتين؟ أي لماذا لا نسمح للطفل الصغير أن يشاهد التلفزيون البتة بينما نسمح للطفل الأكبر منه سنًا أن يشاهده في حدود ساعتين يوميًا؟

لأن في السنتين الأوليين يتعلم الطفل الكلام والتفكير بالكلمة. الطفل حديث الولادة، كأي مخلوق بدائي يفكر بالصورة. الصورة التي يراها هي ما يؤثر فيه. وعندما تكلمه أمه وعلى سبيل المثال تقول له “ماما”، فهو يربط بين كلمة “ماما” وصورة أمه، أي يجرد أو يختزل صورة أمه في منطوق كلمة “ماما”، وتعتبر هذه أول خطوة، خطوة بسيطة، في نمو فكره التجريدي الانساني، وفي التفكير بالكلمة بدلاً من التفكير البدائي بالصورة.

وعندما تترك الأم طفلها الصغير ساعات طويلة أمام التلفزيون، فهذا الجهاز يقدم له صورًا تبهره وتجعله يتابعها باهتمام، فيبقي في مرحلة التفكير بالصورة، ويقاوم التدرج إلى مرحلة التفكير بالكلمة، لذا أكدت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال ألا يشاهد التلفزيون في السنتين الأوليين من حياته حتى يستطيع أن يقوم بأول خطوة تبعده عن التفكير البدائي بالصورة وتأخذه إلى التفكير بالكلمة، إلى تفكيره كإنسان، وإلى تعلم الكلام.

فنأتي إلى السؤال الثاني: وماذا عن الطفل الأكبر سنًا، لماذا لا نتركه يشاهد التلفزيون كما يريد؟  

لأن هناك حالة تنافسية بين التفكير بالكلمة أي التفكير التجريدي أو تفكيرنا الانساني وبين تفكيرنا البدائي بالصورة، لذا يحتاج الطفل أن يواظب على تغذية تفكيره التجريدي حتى لا يتغلب عليه تفكيره بالصورة. وعند حوالي سن الست سنوات يتعلم الطفل القراءة وهو نشاط يساعد مخه على التفاعل وإذا واظب عليه يأخذه إلى مستوى عال من التفكير التجريدي.

تعالوا نتعرف على الخطوات التي تمر بها أجزاء من المخ في عملية القراءة.

عندما تنظر العين إلى صفحة بها كلمات، يوصل العصب البصري، عن طريق شحنة كهرباء صغيرة، هذه الصورة إلى المنطقة الخلفية من المخ. هنا يتعرف المخ على صورة الصفحة، أي يراها، لذا نقول دائمًا أننا نرى بمخنا، وأن العين ما هي إلا أداة، ولكن الرؤية تحدث في المخ.

وعندما تصل شحنة الكهرباء الصغيرة التي جلبها العصب البصري إلى المنطقة الخلفية تغير من توازن شحنات الكهرباء في المخ. ولا ننس أن المخ مكون من ملايين الخلايا العصبية المشحونة بالكهرباء، والتي تتفاعل مع بعضها البعض عن طريق مليارات من التواصلات، فكل خلية عصبية، عن طريق عدد قليل من الوصلات، تستطيع أن تتواصل مع كل الخلايا الأخرى!

هل تتصور ذلك؟ هذا العضو الصغير، المخ، الذي لا يزيد وزنه عن بضعة أرطال به ملايين الخلايا التي تتواصل بمليارات الاتصالات وتنبض جميعها بالكهرباء!!

عندما تصل شحنة الكهرباء إلى المنطقة الخلفية في مخ طفل ممن يكونون قد تعلموا القراءة توًا، تحاول أن تسير في مسارات مختلفة إلى أن تجد مسارًا مفضلاً لها، وهي في ذلك، تشبه ماء المطر الذي يقع على أرض منحدرة، فيسير في مسارات مختلفة إلى أن يكون مسارًا مفضلاً له، أي يحفر قناة صغيرة  يسير فيها وتبدأ تتوسع، وتجذب إليها ماء المطر. كذلك، تكتشف شحنة الكهرباء أن مسارها المفضل بعد المنطقة الخلفية هو المنطقة الصدغية حيث يحدث فك لشفرة الأحرف، والكلمات، وفي لمح البصر يتعرف المخ على كل حرف في الكلمة، واحدًا، واحدًا، ويكون منهم الكلمات، فيتعرف على كل كلمة، واحدة واحدة، ويكون الجمل، فيكون كل جملة، واحدة واحدة، فيستطيع المخ أن يقرأ الصفحة، وفي نفس الوقت، أيضًا في لمح البصر تسير الكهرباء إلى المنطقة الجدارية حيث يقيم ما يقرأ (فيقول المخ أنا اصدق ما أقرأ أو لا اوافق عليه)، ثم تسير الكهرباء إلى المنطقة الأمامية حيث يحدث استرجاع لذاكرة متصلة بما قرأ (فيقول المخ “هذا يذكرني بـ..”، أو يتفنن فيقول “نستطيع أن نطبق هذا في..”).

هذه السيمفونية الرائعة التي تحدث في لمح البصر من تحركات الكهرباء في المخ هي دليل تفكيرنا التجريدي، دليل انسانيتنا.     

عندما اسمع من شاب متقدم في دراسته ومن أوئل مجموعته أنه يمل القراءة، وأنه لا يتذكر أنه قد انهى قراءة كتاب بدأه، أو اسمع من آخر أن قراءة الكتب قد صارت “مودة” قديمة اعرف أن انسانيتنا في خطر.

في مدونة ماضية شرحت كيف أن انسانيتنا هشة لأن الانسان العصري ظهر فقط منذ ما يقرب من 50000 سنة، وخلايا مخه المتصلة بتفكيره العالي، أو بتفكيره التجريدي أو بإنسانيته والمتواجدة في نصفي كرة المخ يموت معظمها في رحلة تكوين المخ، وما يتبقى منها يبقى مبعثرًا في الطبقات الخارجية من المخ، معرضًا لأن يصيبه الضرر من ضربة على الرأس، وهذه الخلايا لم يكن عندها الملايين من السنين لتتماسك في حزم تحافظ على سلامتها كما تتماسك أعصاب قديمة المنبت في المخ البدائي مثل العصب البصري. وما يزيد الطين بلة أن الخلايا التي تقوم بالفكر الانساني ليست فقط هشة لحداثتها، ولصعوبة رحلة تكوينها، ولكنها هشة لأن المخ البدائي المرابط بجانبها والمتحصن فيها يجور عليها ويتحكم فيها كما رأينا في التنافر المعرفي.

وفي هذه المدونة نرى أن الفكر الانساني التجريدي الذي أخذ آلاف السنين ليتكون في الانسان، اصبح مطية للتكنولوجيا التي اخترعها الانسان، مثل التلفزيون والأجهزة التي تتواصل معه بالصورة وتنافس الفكر التجريدي، فنتساءل: هل فكرنا الانساني في خطر؟ هل سيأتي اليوم الذي نرى فيه غياب الكتب والتفكير بالكلمة؟ هل سيصبح من يقرأون الكتب أقلية كما كان الكتبة أيام الفراعنة؟

 وهنا قالت شهرزاد: “وللكلام بقية”، وسكتت عن الكلام المباح.

د. سهير الدفراوي المصري

Leave a Reply

Your email address will not be published.